الجدّة والحفيدة

   الحفيدة: السلام عليك يا جدّتي، يا حنون، يا أحبّ إليّ من أمّي الغالية، يا ذات الفضل العميم عليّ، لقد حنوت عليّ حنوَّ المرضع على فطيمها وحدبت عليّ منذ كنت أحبو في فسحة الدار وحرستني من كلّ أذى كما تحرس الرنقاء فراخها واليمامة صغارها والنعجة حملها واللبوة شبلها، وحضنتني في حجرك وغمرتني بيديك الليّنتين في أوقات كانت أمّي منشغلة بتدبير منزلها وما أكثرها من أوقات، ولمّا شببت ما كنت تفارقينني إلّا في القليل النادر، فتسهرين على مأكلي ومشربي وتعنين بإلباسي الملابس النظيفة المكويّة المرتّبة، وتشترين لي العقود والأساور المفرحة لقلبي، وتستكتبين التعاويذ الواقية شرَّ العيون المؤذية وتعلّقينها في عنقي وما تحت العنق، لتكون حرزًا لي وحماية! كلّ ذلك لفرط محبّتك لي ولإيمانك البريء بأنّ آيات الكتب السماويّة تنأى بي عن مهاوي الخطر والألم.

   وإنّي يا جدّتي الحبيبة لا أزال أتذكّر كلّ ما أسديتِ لي من عطف وحنان وحبّ، لا بل ما زلت محتفظة بآثارك الثمينة في بيتي الزوجيّ، وشريكي في الحياة يشاركني في المحافظة عليها كما أحافظ أنا، وأصبح شريكًا لي في محبّتك أيضًا، وقد طلب منّي أن أدعوك لزيارة " شاليه " الصغير التي استأجرها على الشاطىء الرمليّ الأبيض الناعم جنوبيّ بيروت لتمضية نهار بقربي وتتفرّجين على متنزّهات السباحة هناك حيث تهرع أفواج الناس من كلّ حدب وصوب من المدينة.

   وقد ذكرت لي أمّي أنّك تحبّين زرقة البحر وضجيج أمواجه والاستحمام في مائه النافع، وأنّك كثيرًا ما ذهبت بها إليه في زمن كنت فيه أنا في عالم الغيب المجهول، وكانت والدتي لا تزال في ربيع العمر، وإذا ما لبّيتِ طلبي ولم تسفّهيني فستفرحين بتذكارات أيّام حلوة عبرت بك القهقرى عبر الزمان المنصرم، ويتجدّد نشاطك، وقد تزيل شيئًا من تجاعيد وجهك الطيّب أو تخفّف على الأقلّ من نتوآتها المزعجة. نعم يا جدّتي الحبيبة أريد منك أن تذهبي معي لعلّي أفرح وأقول: إنّي وفيّة وقد أدّيت بعض ما يتوجّب عليّ إزاء مخلوق إنسانيّ هو عندي من أعزّ المخلوقات الإنسانيّة المُحسنة الخيّرة وأقربها إلى نفسي! إنّ الطقس جميل مغرٍ في هذه الأيام التي كاد الربيع يلفظ فيها أنفاسه، والتي ينافس فيها الشاطىء العذب عذوبة المناخ في أعالي ذرى لبنان! تعالي يا جدّتي نوّهي عن نفسك معنا في ذلك المكان الخلاّب وأزيلي بعض همومك ووساوسك المنزليّة ومتّعي ناظريكِ المتعبين بمشهد من مشاهد بلادنا الساحرة، حيث تتلاقى زُرقة السماء الصافية وزرقة المياه الغامقة، صفحتين جذّابتين يجمعهما أفق دائريّ، أحد طرفيه جبال الشوف الرهيبة وناطحات سحاب روشة رأس بيروت، ينضمّ إلى هذه الصورة المُبهجة نشيد أبديّ أزليّ يلحّنه موج أبيض مُزبد يتكسّر على الشطآن الرمليّة السمراء والبيضاء والصخور الصُّم الدكناء؛ تعالي!

   الجدّة: شكرًا يا حفيدتي الحبيبة، يا أقرب الناس إلى فؤادي، يا ذات المحبّة والوفاء، يا من تعرفين المعروف ولا تنسين الجميل كما تنساه أكثر الحفيدات أمثالك! لقد أتيتِ بي إلى هذه المنظرة الفاتنة وإنّني سعيدة جدًا لسعادتك ولأنّ مجيئي كان سرورًا لكِ، وإنّي يا بُنيّتي أعرف هذا المكان حقّ المعرفة وقد أكلت رماله وحصاه وصخوره الخشنة قسمًا من أخمص قدميَّ عندما كنت بعمرك، في عهد الشباب الغضّ والصبا والطفولة، كما كنّا نأتي مع والديك وإخوتك وجاراتنا وجيراننا. لم نكن مقيمين بعيدًا عن هذا الشطّ الحبيب. كنّا عندما يأذن الطقس والسماء بالإقامة في العراء ننصب هناك على ذلك الكثيب عرزالًا ذا طابقين، سقفه وحيطانه من غصون الصنوبر والدلب والغزّار، قربه عرازيل الأقارب والأصحاب نمضي فيه أشهر القيظ ونتّقي لفحات الهجير، بعيدين عن الضجيج باستثناء ضجيج اليمّ، ننعم بالهدوء والراحة والسحر الحلال نساءً وصبايا وصغارًا أثناء النهار، وينضمّ إلينا الرجال مساءً بعد أن يكون عمل السوق أو الحقل قد أتعب أجسادهم حيث يجدون ما يزيل عنهم ذلك التعب بفضل عنايتنا بهم وتيسير سبل الترفيه عنهم فتقرّ عيونهم وينامون نومًا مريحًا مزيلًا لآثار الكدح والنصب.

   نعم يا أقرب الناس إلى نفسي وقلبي، لقد كان حملك إيّاي على المجيء إلى هذا المسبح مثيرًا لذكريات الماضي الغالية، فنقلتني إلى مطلع هذا القرن المليء بالعجائب والمتناقضات، فانفتحت أمامي نافذة لصور بعض من رفيقاتي اللواتي وارتهنّ الرموس المظلمة، ولو انتفضت قبورهنّ وقُدّر لهنّ الانبعاث والنشر لرأين عجبًا ولدهشن من هذا الجيل من البشر الذي لا تربطه بجيلهنّ إلّا روابط هزيلة وخيوط أوهى من خيوط تنسجها العناكب.

   كنّا نأتي إلى هنا قبل طلوع الغزالة ونظلّ على الشاطىء إلى أن تعلو قليلًا عن كتف صنين أو قبيل الغروب حتّى بعيد زوال الشفق المنافس بلونه حمرة الورد تارة والشقيق أحيانًا. أجل يا حبيبتي! هنا كنت أجيء وأستريح ولم يكن لا أكواخ إسمنتيّة ولا شاليهات قرميديّة ولا قاطعون للتذاكر الحماميّة ولا من يُسأل ولا من يَسأل، ولا مؤجّرون ولا مستأجرون. كان الشاطىء حرًّا لنا والبحر يستقبلنا بكرمه المشهود يتغاضى عن عيوبنا وهمساتنا ووشوشاتنا ويكتم هفواتنا ولا يشي بنا لأحد، بل يتركنا نسرح ونمرح على ساح شطآنه ومسارح أمواجه لاعبات هانئات على سجايانا!

   أما اليوم فماذا أرى يا حفيدتي؟ كنت أودّ ألّا أجيء! ولكن عزّ علي أن أردّ طلبك! كنت أتمنّى ألّا أبصر هذه المشاهد التي خدش بعضها شعوري وكدّر عينيّ وجرح روحي، وقد تعجبين ممّا أقول وقد يكون ما أشاهد أمرًا عاديًّا عندك وعند لدّاتك1 ورفيقاتك وبنات جيلك، أمّا أنا فلا أستسيغه بل أراه نافرًا مكروها وليس بقدرتي قبوله أو تفهّمه! اسمعي يا بنيّتي ما أقول وعي! هل ترين ما أرى؟! التفتي إلى هناك! هل عيناي تخدعانني فترياني غير الحقيقة؟ هل أصاب بصري مرض أو هناك غشاوة تريني الأشياء على غير ما هي! ألا ترين مثلي؟ نساء شبه عاريات يعددن بالعشرات، يسرن زرافات ووحدان على حافة الماء المالح، إحداهنّ ممسكة بذراع رجل شبه عارٍ أيضًا، إنّها تغطي رمّانتي صدرها بقطعة قماش كأنّها محبوكة من أوراق البلوط.  

                                        يوسف س. نويهض     


1 : لدّاتك: أترابك من ولدن يوم ولادتك.